مقياس دقيق جدًّا لإيمان الأمة ، ولا نقول إننا نعود إلى الله ونقبل بالإسلام فقط لتحرير فلسطين؛ إنما تحرير فلسطين واجب من الواجبات الكثيرة والهائلة التي أمرنا الله- عز وجل- بفعلها؛ فالصلاة واجب، والصيام واجب، والزكاة واجب، وبر الوالدين واجب، وحسن الجوار واجب، والجهاد واجب، وتحرير الأرض واجب، ورفع الظلم واجب، واجبات كثيرة أمرنا الله بها، ولابد لنا من فعلها، وليس لنا أن نختار من دين الله- عز وجل- ما يحلو لنا، ونترك ما يحلو لنا:
]أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ] {البقرة:85}، فنحن نعود إلى الله- عز وجل؛ لأنه أمرنا بالعودة الدائمة إليه: [
وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنْصَرُونَ] {الزمر:54}، فإذا عُدنا إليه بكل معاني كلمة العودة؛ بمعنى أن نستجيب له في كل صغيرة وكبيرة، وفي كل أمر ونهي، فإنه يرضى عنا، ويحقق لنا مرادنا من تحرير فلسطين أو غيره:[وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ] {الأنبياء: 105}، فنحن لا نعود إلى الله- عز وجل- في الأزمات والشدائد فقط، أو لأجل حاجة معينة أو غرض بذاته.. إنما نعود إليه؛ لأنه ربنا وإلهنا، والذي بيده مقاليد الأمور كلها، ولأننا عباده الذين نرجو رجمته، ونرهب ناره، نعود إليه لأننا نعبده بكل ذرة في أجسادنا ودمائنا وعظامنا، ولسنا كالعبد السوء الذي إن أُعطي عمل، وإن لم يُعط سخط؛ إنما نحن نعمل بما شرع؛ سواء كنا في زمان استضعاف، أو في زمان تمكين، وسواء كنا في غزة، أو في غيرها، وسواء كنا في فقر أو في غنى: [
قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ]{الأنعام: 162}،,
وإذا كان من طبيعة البشر بصفة عامة أن يتذكروا أحيانًا وينسوا أحيانًا أخرى، ويقتربوا من الله أحيانًا، ويبتعدوا عنه أحيانًا أخرى، فإن الله- عز وجل- من رحمته بخلقه وضع لهم أمورًا في الأرض تذكرهم به دائمًا إذا نسوه، وتُعيدهم إليه كلما ابتعدوا عنه؛ رحمة من الله- عز وجل- ورأفة بخلقه.
ومن هذه الأمور فلسطين :فَقِهَ هذه الحقيقة عظماء المسلمين وعلمائهم وفقهائهم وقادتهم، فكانوا إذا ابتعد الناس عن الله- عز وجل- وسقطت فلسطين، ألهبوا حماس الناس بقضية فلسطين، لا يستخدمونها فقط لمجرد التحرير، ولكن يستخدمونها للهدف الأسمى، والغاية الأعظم؛ وهي العودة إلى الله- عز وجل.
عودة فلسطين مرهونة بالعودة إلى الله :"نور الدين محمود" الشهيد- رحمه الله- صنع منبرًا ضخمًا، وقرر أن لا يهدأ له بال ولا يُغمض له جفن حتى يضع هذا المنبر في المسجد الأقصى، أو يتوفاه الله- عز وجل- قبل ذلك، فقه- رحمه الله- إسلامية القضية، واستغلها ليعيد الناس إلى ربهم. كذلك فعل "صلاح الدين الأيوبي"- رحمه الله-، وما فكر في تحرير فلسطين إلا بعد أن اطمأن إلى عودة المسلمين إلى ربهم، وصدقهم معه، فهنا علم أن النصر قريب؛ فكانت حطين، وكان تحرير بيت المقدس.
ومن ثَمَّ، فإنه على الدعاة المسلمين أن يُحسنوا استغلال قضية فلسطين في لفت أنظار المسلمين إلى ضرورة العودة إلى الله- عز وجل- فضياع فلسطين علامة على نقص الإيمان وضعفه، وكلما ازداد موقف المسلمين ضعفًا في قضية فلسطين أدركت أن المسلمين ابتعدوا عن الله أكثر، وهذا أمر مرعب، وناقوس خطر عظيم.
يجب على الدعاة أن يوضحوا للناس- تمام الوضوح- إسلامية القضية الفلسطينية، وارتباطها الوثيق بقيمة المسلمين عند الله- عز وجل- وأن الله- عز وجل- إن علم خيرًا في جيل ما فإنه يمكِّن له، وإن علم ضعفًا وجبنًا وخورًا وخبثًا في جيل آخر استبدل به: [
وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ]{محمد: 38}، وعلى الدعاة أن يشرحوا للمسلمين كيف تتحول حماستهم لفلسطين إلى عمل إيجابي لا يحرر فلسطين فقط، بل يرفع من شأن الأمة الإسلامية بكاملها، ويأخذ بيدها إلى مكان الصدارة والقيادة للأرض كما أرادها الله- عز وجل: [
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ] {آل عمران: 110}.
ولا يستقيم أن يرفع المسلمون أيديهم إلى الله- عز وجل- يدعونه أن يرجع إليهم فلسطين، وأن يرفع عنها البلاء، وهم لا يقدِّمون عملاً، ولا يركبون خيلاً، ولا يرفعون سيفًا، ولا يتمسكون بقرآن، ولا يحفظون سُنَّة، ولا ينتجون غذاءهم ودواءهم وسلاحهم، ولا يُحكِّمون شرع الله- عز وجل- في حياتهم.
الإسلام منظومة متكاملة، والمسلم الفقيه هو من يُحيط علمًا بكل جوانب الصورة الإسلامية؛ فلا يهتم بشيء ويهمل آخر، ولا يختار من الدين ما يوافق هواه ومزاجه، بل يكون شعاره في حياته دائمًا:[
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ] {البقرة: 285}.
قضية فلسطين قضية إسلامية تمامًا، وحتمًا ستعود فلسطين في يوم من الأيام إلى الإسلام والمسلمين،, ولكن المهم مَن الذي سيعيدها؟ أو قل: من الذي سيعود إلى الله، فيعيد الله إليه فلسطين؟!
[يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ* إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] {التوبة: 38، 39}.النـورُ كيف ظُهورُه إنْ لم يكنْ دمُنـا الوقود؟!...والقـدسُ كيف نُعيدها إن لم نكنْ نحنُ الجنـود؟!