في هذه الأثناءدخلت الجيش ولي فيه قصة قد يطول شرحها ولكن أرجو أن يكون في ذلك عبرة وعظة وأسألالله أن يرزقني حسن النية في عرضها وأن يكون ذلك بقصد الفائدة لا فخراًورياءاً.
ذهبت إلى القاهرة (حلمية الزيتون) لتقديم أوراقي للجيش، وكنت أظنأنني سوف أقدم أوراقي وأعود ولكن الحال كان على عكس ذلك حيث قسم الحاضرون إلى منسيجند عسكري ومن يرشح لضباط الاحتياط، وكنت قد قلت في نفسي إن رشحت لضباط الاحتياطفلن أحلق لحيتي قولاً واحداً، وإن رشحت جندياً كان في المسألة قولان وأستخير اللهعز وجل أحلق أو لا أحلق.
فقدر الله عز وجل أنني رشحت لضباط الاحتياط لأنالكليات العملية خاصة طب وهندسة يرشحون للاحتياط فقلت لمسجل الكلية أنا لن أحلقلحيتي. فرفض أن يحولني إلى جندي، وقال أنتم تحبون السجن وكانت سيارات الكلية واقفةفتم نقلنا إلى كلية الاحتياط بفايد دون أن نخبر أهلنا أننا ذاهبون إلى الكلية؛وذهبت إلى كلية الاحتياط بالزي الرسمي للجماعة الإسلامية أقصد القميص والغطرة؛ وبتليلة واحدة بعنبر الطلبة وأحسست بالاختناق في هذا الجو الذي لم أتعود عليه حتى أننيكنت أعيش بالمسجد وأخالط إخواني وأستمع للقرآن وأشتغل بطلب العلم والحرص على سلامةقلبي ولكن بحمد الله لم تكرر هذه الليلة التي بتها في عنبر الطلبة بكليةالاحتياط.
وفي الصباح وبعد صلاة الفجر جلست على سرير وكان في الدور الأولأقرأ القرآن فأتى الشاويش المسئول. عن العنبر يقول هيا للطابور فقلت له: أنا رافضالجيش من أوله إلى آخره ورفضت الخروج معه. فذهب من أجل أن يبلغ المسئولين وأتانيأحد الطلبة الذين في الدفعة السابقة لدفعتنا رقم (44) وأخبرني في دفعتهم (43) أخرفض حلق اللحية وهو الآن بالسجن المركزي وإن شئت أن تذهب إليه فهيا بنا. فقلت له: نعم نذهب إليه.
وكان هذا الأخ يسمى رفعت وقد حكم عليه بخمسة أشهر وكان منجماعة التبليغ والدعوة ومن أقرب الناس إلى الشيخ إبراهيم عزت رحمه الله أميرالجماعة ولم يكن للكلية أسوار حتى نعلوها وذهبنا إلى السجن المركزي بفايد وخرجإلينا الشيخ رفعت وكان وسيماً جميلاً والنور يشع من وجهه وهو متعمم عمامة لطيفةفسلم علينا وقال له رفيقي: الأخ أحمد فريد من الدفعة الجديدة وهو يرفض حلق اللحيةويطلب منك النصيحة. فنصحني حفظه الله عدة نصائح أغلى من الدنيا وما فيها، فقاللي:
& إن أمرك أحد المسلمين بأمر فإن كان معصية فلا تطيعه فلا طاعةلمخلوق في معصية الخالق، وإذا أمرك من ليس بمسلم فلا تطيعه على كل حال خالفواالمشركين.
& والنصيحة الثانية: قال: لا تفتر عن ذكر الله عز وجل فإنالله عز وجل لما أرسل هارون وموسى إلى فرعون قال (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَبِآَيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي) [طه: 42]، فالذكر يقوي القلب على مواجهةالشدائد والدخول على الظالمين.
& والنصيحة الثالثة: قال لي إذا كلمك فلاتنظر إليه لأن النظر إلى وجه الفسقة يقسي القلب ولا تناقشه في كلامه بل دعه يقل ماعنده ثم بلغه دعوتك فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرض عليه أبو الوليد بمكة أنيجمعوا له من المال حتى يكون أكثرهم مالاً وأن يملكوه عليهم لم يناقشه ولكنه قالله: أفرغت يا أبا الوليد؟ فاسمع مني ثم تلا عليه القرآن.
خرجت من هذهالمقابلة وأنا أشد عزماً وتصميماً على المواصلة والثبات على الحق وعدت إلى كليةالاحتياط فرأيتهم قد حلقوا لهم رؤوسهم وصرفوا لهم الملابس العسكرية فكانوا يلبسونهاقبل أن تفصل عليهم وكانوا في طابور الميز (يعني المطعم) لطعام الغذاء.
وأتىالشاويش الذي كلمني في الصباح وقد تعب في البحث عني وقال: أين كنت؟ وعلمت أنه ليسعلى ملتنا، فقلت: أنت بالذات لا تكلمني.
فأخبر أحد الضباط بخبري فقال له: يقف في الطابور. ووقفت في الطابور وأنا أرتدي القميص وقد صنع لي الشيخ رفعت منالغطرة عمامة لطيفة ثم حدثت مشادة كلامية مع أحد الضباط ذهبت على إثرها إلى سجنالكلية وكان في الواقع أحسن مكان بالكلية لأنه بجوار المسجد وهو فارغ تماماً وأمكنفيه من قراءة القرآن وكتب العلم وصار سجن الكلية هو خلوتي كما قال شيخ الإسلام ابنتيمية: إن سجني خلوة..
وكنت أصلي بالناس إماماً وأعطي دروس بالمسجد يحضرهامن فيه خير من ضباط الكلية وأخطب الجمعة أحياناً فمكثت في سجن الكلية حتى تشكلتمحكمة عسكرية ممن يحضر دروس في المسجد خوفاً علي من تشديد العقوبة وحكموا علي بشهرواحد والمحزن أنني سجنت بسجن الوحدة وليس سجن الطلبة المجاور للمسجد وابتليتبمخالطة المسجونين حيث شرب السجائر وسماع الغناء فلم يكن سجني في هذه المرة خلوةكما قال شيخ الإسلام بل ما كنت أجد مكاناً أقوم فيه بالليل..
وبدأوا معيمساومات حتى أوافق على حلق اللحية وأتاني طبيب الكلية وعرض علي إذا وافقت علىمبادرته أن يكون سكني بالعيادة وأن أكشف على إخواني الطلاب وبذلك لا أقف في الطابوروأحيي العلم والضباط فوافقت على ذلك وتم إلغاء السجن بعد أسبوع أو أكثر وانتقلت إلىالعيادة وكنت أعامل قريباً من معاملة الضباط الأطباء وأسكن معهم.
ولكن نفسيلم تطاوعني إلى حلق اللحية مرة ثانية فأعفيت لحيتي وقدر الله عز وجل أن يتغير مديرالكلية ويعين لواء جديد للكلية فأهمهم كيف يعرضون عليه مشكلتي وأنا قد تركت اللحيةأكثر من ثلاثة أسابيع. وقبل أن أدخل عليه دخلت على من دونه من الرتب وكانوا يرغبونيتارة ويهددوني تارة أخرى ويقولون بحمية وعصبية القوانين العسكرية والنظم العسكريةفأقول لهم (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًايُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِوَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَلِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ) [البقرة: 165]
فيقولون نحن لسنا كفاراً، فأقول أنا لا أكفركم ولكنها الغيرة على الشرعكلما وجدت غيرتهم على القوانين العسكرية.
وأخيراً أدخلت على اللواء مديرالكلية وهو يرفع جهاز التسجيل بالقرآن وعرض عليَّ حلق اللحية فرفضت وتلوت عليه أدلةالتحريم فحولني إلى نائب الأحكام لإعادة محاكمتي فحكم عليَّ بستة أشهر لمخالفةالأمر العسكري بحلق اللحية وتم إعادة الشهر الذي أوقف تنفيذه فصارت لمدة سبعة أشهرقضيت جزءاً منها قبل إجراء تحويلي إلى السجن المركزي في سجن الطلبة حيثالخلوةوممارسة الدعوة مع الذين يمن الله عليهم بالسجن.. وكان الوقت شتاءاً فكنت أخرجبالبالطو والغطرة وأرى إخواني وهم في البرد القارص بالشورتات وبلغ من فتنة بعضهمممن كان من الجماعة الإسلامية قبل دخوله الجيش أنه ترك الصلاة.
وقد تعجبتكيف دخل الإخوة هذه الكلية وفيها ما فيها وتخرجوا ضباط وكيف سمح لهم إيمانهم بذلك؟! وأحببت أن أترك بالكلية كلمة حق تتوارثها الأجيال وتشهد لي يوم يقوم الأشهاد فقلتفي نفسي الجيش كله ظلم.. ظلم النفس وظلم العباد والظلم والظلم هو أظلم الظلم الشركبالله عز وجل فجهزت خطبة في تفسير الحديث القدسي "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسيوجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا".
وقلت في خلال خطبتي ما ظنكم برسول اللهصلى الله عليه وسلم لو أتى فرأى أمته يلتفون حول خشبة في آخرها خرقة يعظمونها مندون الله عز وجل، ما ظنكم برسول الله صلى الله عليه وسلم لو أتى فرأى أمته يعظمبعضها بعضاً وكان قد دخل على أصحابه فقاموا فقال: لا تعظموني كما تعظم الأعاجمملوكها وقلت لهم: تقولون الجيش يربي الرجال وتأمرون بحلق اللحية والتشبهبالنساء؟!
وكان الأولى بكم أن تقولوا الجيش يربي الرجال وتأمرون من يحلقلحيته بإعفاء اللحية لأن الجيش يربي الرجال؟!
فقلت ما في نفسي في خطبةالوداع وبعد إقامة الصلاة قلت: كل أخ يلبس باريه: (ما يوضع على الرأس) فيه صنم (النسر) يداريه فإن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة وصليت بهم الجمعة، وقدقامت القيامة بالكلية فمن موافق ومشجع لما قلت ومن خائف وعلى كل حال حصل المقصود منإقامة الحجة وترك كلمة الحق بالكلية. ومن رحمة الله بي أنه كان يجعلي دائماً مخرجاًويضيق عليهم كما وعد عز وجل (وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُبِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَيَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) [الطلاق: 2]